بناء الانضباط في إدارة المخاطر في ظل حالة من عدم اليقين في السوق
يتميز المشهد الاقتصادي العالمي في عام 2025 بتداخل معقد بين التضخم، وتطور السياسات النقدية، وزيادة التوترات الجيوسياسية. في الأسابيع الأخيرة، تصدرت التوترات الجيوسياسية، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط على اهتمام وسائل الإعلام العالمية، مما ضخ موجة جديدة من حالة عدم اليقين في الأسواق المالية. في مثل هذا البيئة الديناميكية وغير المتوقعة، لم يعد مجرد الرد على صدمات السوق استراتيجية كافية قابلة للتطبيق على الشركات، والمستثمرين، والبنوك، والمؤسسات المالية غير المصرفية (NBFIs). تمثل هذه الفترات تحديًا مزدوجًا: الحاجة إلى تقييم المخاطر المتغيرة بسرعة مع مقاومة الرغبة في الرد بشكل متهور. تستعرض هذه المقالة أهمية الحفاظ على نهج استباقي ومتوازن خلال فترات عدم اليقين المتزايدة في السوق. كما توضح هذه المقالة الخطوات العملية التي يمكن للمؤسسات اتخاذها لتعزيز انضباطها في إدارة المخاطر والتنقل في الظروف السوقية المتطورة بثقة وسيطرة أكبر.
الذعر ليس استراتيجية لإدارة المخاطر
ردود الفعل المفرطة تنتج عن قلة الاستعداد. غالبًا ما تؤدي فترات التقلبات السوقية المرتفعة إلى اتخاذ قرارات سريعة: التسرع في التحوط عند مستويات غير مواتية، تصفية الأصول في أسواق ضعيفة، أو المبالغة في رد الفعل تجاه كل خبر جديد. مثل هذه الردود في كثير من الأحيان تلحق ضررًا أكبر من نفعًا. عندما تحدث صدمة, يجب أن نضع في الاعتبار هذه الأخطاء الشائعة:
- تثبيت الخسائر: التحوط أو تصفية المراكز عندما تكون الأسواق في أسوأ حالاتها غالبًا ما يعني تجميد الخسائر التي كان من الممكن أن تكون مؤقتة.
- دفع مبالغ زائدة مقابل الحماية: عندما ترتفع التقلبات، ترتفع أيضًا تكاليف الخيارات، والمقايضات، وأدوات التحوط الأخرى.
- كسر انضباط المخاطر: يمكن أن يتسبب الذعر في تلف خطوط الاتصال بين مديري المخاطر، والخزانة، ومجالس الادارة، وأصحاب المصلحة الآخرين، مما يؤدي إلى اتخاذ إجراءات غير منسقة أو متناقضة. عندما يتم اتخاذ القرارات بناءً على أخبار مجزأة أو شائعات أو مؤشرات متأخرة يزيد من خطر ارتكاب أخطاء مكلفة.
رادار المخاطر: إشارات المخاطر الرئيسية في السوق خلال فترات التوتر
1. لنجاح في التعامل مع بيئة السوق الحالية أكثر من مجرد التفاعل مع عناوين الأخبار. فإدارة مخاطر السوق السليمة غالبًا ما تتضمن مراقبة المؤشرات التي يمكن أن تساعد في تحديد التغيرات في شهية المستثمرين أو المخاطر الكامنة. وبينما توجد العديد من المقاييس التي يمكن للمؤسسات أخذها في الاعتبار، فإن ما يلي بعض المؤشرات الشائعة التي تُشارك كنقاط مرجعية جديرة بالملاحظة.ديناميكيات منحنى العائد: يشكّل شكل منحنى عائد السندات الحكومية (مثل: سنتان، 10 سنوات، 30 سنة) مؤشرًا قويًا على الركود أو النمو الاقتصادي. فعندما يتسطح المنحنى أو ينقلب، غالبًا ما يسبق ذلك تباطؤًا اقتصاديًا. أما انحدار المنحنى، فيمكن أن يشير إلى توقعات بنمو أقوى أو تضخم أعلى. من المهم متابعة أي تغيّرات في شكل هذا المنحنى عن كثب.
2. مؤشرات التقلب: المعروفة عمومًا بأنها “مقاييس الخوف” في السوق، توفر مؤشرات مثل مؤشر التقلب (VIX) ومؤشر MOVE (الذي يتتبع تقلبات سوق السندات الأمريكية) رؤى قيمة حول التقلبات المتوقعة عبر فئات الأصول الرئيسية. يقيس مؤشر VIX التقلب الضمني في خيارات S&P 500، ويعد مقياسًا للمزاج العام في سوق الأسهم، بينما يعكس مؤشر MOVE التقلب المتوقع في عوائد السندات الأمريكية. مقياس آخر رئيسي هو تقلب أسعار النفط (OVX) وهو مهم بشكل خاص نظرًا للدور الحاسم لأسواق الطاقة في الديناميكيات الاقتصادية العالمية. المستويات المرتفعة أو المتزايدة من هذه المؤشرات غالبًا ما تشير إلى زيادة عدم اليقين في السوق أو الضغط المتزايد.
3. فروق أسعار الائتمان: يُعد الفارق في العوائد بين سندات الشركات (سواء ذات التصنيف الاستثماري أو عالية العوائد) والسندات الحكومية المماثلة مقياسًا رئيسيًا لمعنويات السوق. عندما تتسع هذه الفروق، فإن ذلك غالبًا ما يعكس تزايد المخاوف بشأن المخاطر الائتمانية واتجاه المستثمرين نحو تجنّب المخاطر. ويُعتبر الاتساع الواضح والمستمر لهذه الفروق بمثابة إشارة مبكرة على وجود توتر أعلى في الأسواق. من المهم مراقبة ليس فقط مستوى هذه الفروق، بل أيضًا اتجاهها وسرعة تغيّرها.
4. اتجاهات أسعار السلع: مراقبة اتجاهات أسعار السلع، لا سيما في النفط والذهب، يمكن أن توفر إشارات مبكرة عن ضغوط التكاليف أو المخاطر من جانب العرض. من المهم تقييم كيفية تأثير هذه التقلبات على القطاعات المختلفة.
5. البيانات الاقتصادية العامة: المفاجآت في البيانات الاقتصادية الكبرى مثل التضخم، والتوظيف، ومؤشر مديري المشتريات (PMI)، وثقة المستهلك أو أرقام الناتج المحلي الإجمالي قد تؤدي إلى تغييرات كبيرة في توقعات السوق وتوليد التقلبات عبر فئات الأصول. مراقبة هذه البيانات أمر بالغ الأهمية لتوقّع توجهات المخاطر وإجراء التعديلات المناسبة.
النظرة المستقبلية: كن مستعدًا، لا متسرعًا
مع دخولنا النصف الثاني من عام 2025، لا تزال البيئة المالية العالمية معقدة. وبدلًا من رد الفعل على العناوين الإخبارية، يكمن الأمر في تتبّع المؤشرات الصحيحة، وطرح الأسئلة المناسبة، واتخاذ القرارات بإنضباط.
1. إشارات البنوك المركزية: تصريحات البنوك المركزية —حتى التحولات الطفيفة في التوجيهات بشأن أسعار الفائدة—يمكن أن تؤثر بشكل كبير على عوائد السندات، وتكاليف الاقتراض، وتدفّقات رؤوس الأموال. من الضروري متابعة التوجهات المستقبلية للبنوك المركزية الكبرى مثل الاحتياطي الفيدرالي، وبنك إنجلترا، والبنك المركزي الأوروبي من خلال خطاباتهم وبياناتهم.
2. الضبابية الجيوسياسية: تظل المخاطر الجيوسياسية مصدرًا رئيسيًا لعدم اليقين في الأسواق، حيث يمكن أن تؤدي الصراعات والأحداث السياسية الكبرى إلى اضطرابات في أسعار الطاقة، وسلاسل الإمداد، ومعنويات المستثمرين. وغالبًا ما تؤدي هذه التطورات غير المتوقعة إلى زيادة التقلبات في الأسواق العالمية.
3. سياسات التعاريف الجمركية والاحتكاكات التجارية: يمكن أن يؤدي التجديد في القيود التجارية والسياسات الجمركية إلى تأثيرات واسعة النطاق على قطاعات الأسهم، وأسواق العملات الأجنبية، وتوقعات النمو العالمي. من المهم متابعة تطورات المفاوضات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وبين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلى جانب إعلانات التعريفات الجمركية حسب القطاع، وأي مؤشرات على اضطرابات مثل ارتفاع تكاليف الشحن أو تباطؤ سلاسل الإمداد.
4. انضباط إمدادات النفط: يظل استقرار إمدادات النفط ضبابية، تعتمد بشكل كبير على قدرة تحالف أوبك+ في الحفاظ على تماسكه وسط ظروف السوق المتغيرة. كما أن استجابة المنتجين خارج أوبك، وخاصة شركات النفط الصخري الأمريكية، لإشارات الأسعار تُعد عاملاً حاسمًا، إذ إن مرونتهم في الإنتاج قد تساهم في إدخال تقلبات ومخاطر كبيرة في أسواق الطاقة العالمية.
الخاتمة: بناء مرونة مستدامة
أكد النصف الأول من عام 2025 أهمية الانضباط على حساب التنبؤ. لكن الانضباط لا يعني أن تكون لا مبالِ. بل يعني المتابعة النشطة للمؤشرات الصحيحة، وطرح الأسئلة المناسبة في الوقت المناسب، وبناء ردود فعل داخلية فعّالة تُمكّن من الاستجابة دون مبالغة. المؤسسات المزدهرة لن تكون تلك التي تخشى التقلبات، بل التي تنظر إليه كإشارة للاستعداد، والتكيّف، والتطور.
المؤسسات التي تسعى لبناء قدرة تحمّل حقيقية يجب أن تتجاوز مجرد الوعي العام. ينبغي عليها أن:
- تصميم لوحات متابعة تدعم اتخاذ القرارات في الوقت المناسب من خلال دمج مؤشرات المخاطر المستقبلية وتحديد مستويات تنبيه مبنية على عتبات محددة (مثل تحركات التقلب، تغيّرات أسعار السلع أو الأسهم، فروق العوائد الائتمانية، وغيرها).
- عقد جلسات دورية متعددة الخبرات تجمع بين فرق الخزانة، والمخاطر، والأعمال لإعادة تقييم التعرضات، والتحقق من السيناريوهات، وتوحيد الاستراتيجيات.
- إجراء مراجعات للمخاطر بعد الأحداث الكبرى التي تؤدي إلى اضطراب السوق لتقييم فعالية الاستجابة، وتحديد الثغرات في بروتوكولات إدارة المخاطر، وتعزيز أطر الاستجابة المستقبلية بما يضمن اتخاذ قرارات سريعة ومدروسة في الأوقات الحرجة.
- مراجعة وإعادة التحقق من نماذج المخاطر الأساسية تحت اضطرابات السوق لضمان استمرار فعاليتها وموثوقيتها. قد لا تكون الافتراضات التي كانت صالحة في الأوضاع العادية قابلة للتطبيق في بيئات متقلبة أو مضطربة.
- إجراء اختبارات ضغط مستهدفة واختبارات ضغط عكسية، فهي لا تحاكي سيناريوهات قصوى محتملة فقط، بل تساعد أيضًا في تحديد النقاط الحرجة التي قد تصبح فيها استراتيجيات رأس المال أو السيولة أو التحوط غير فعّالة.
- وضع بروتوكول لحوكمة نموذج المخاطر يضمن إعادة تقييم دورية لمدخلات النموذج، وأساليب المعايرة، والافتراضات الاقتصادية العامة، خاصة عند توفر بيانات جديدة أو بعد حدوث صدمات في السوق.
- تعيين “رواد للمخاطر” داخل كل وحدة عمل يكونون مسؤولين عن لوحات المتابعة وأطر الاستجابة، لضمان التنسيق الفوري، وتوافر البيانات، وسرعة اتخاذ القرار عند صدور أي إنذارات.
قدرة التحمّل لا تُبنى على التوقعات المثالية، بل على الاستعداد الفعّال. الاختبار الحقيقي لإطار إدارة المخاطر ليس في مدى دقته في توقّع الصدمة القادمة، بل في مدى سرعته وفاعليته في توجيه الاستجابة عند وقوع تلك الصدمة. السؤال الأساسي لمتخذي القرار لم يعد: “ماذا لو حدث خطأ ما؟”، بل أصبح: “هل نحن مستعدون لامتصاص الصدمة، والتعامل معها بفعالية، والمضي قدمًا؟”
ومع دخولنا النصف الثاني من عام 2025، فإن من يتبنّى هذا النهج لن يكون قادرًا فقط على تجاوز اضطرابات السوق، بل سيساهم أيضًا في إعادة تعريف ما يعنيه حقًا أن تكون مستعدًا للمخاطر.